
ميزان المدفوعات هو (كشف حساب دولي” يوضح كل ما يدخل ويخرج من عملات أجنبية نتيجة التجارة، الاستثمار، السياحة، التحويلات، والقروض) وواحدًا من أهم المؤشرات الاقتصادية التي تُعبر عن الوضع المالي للدولة في تعاملها مع العالم الخارجي، فهو يُسجل جميع المعاملات الاقتصادية بين المقيمين وغير المقيمين، بما في ذلك التجارة في السلع والخدمات، وحركة رؤوس الأموال، والتحويلات المالية، ومن بين أبرز العناصر التي تؤثر في هذا الميزان نجد القطاع السياحي، الذي يمثل مصدرًا حيويًا للنقد الأجنبي، وركيزة مهمة في دعم الاستقرار الاقتصادي للدول، خاصة تلك التي تمتلك مقومات طبيعية وثقافية وتاريخية جاذبة للزوار.
السياحة كرافد للعملة الصعبة
تُعتبر إيرادات السياحة من أهم مصادر العملة الصعبة، فهي تضيف مباشرة إلى حساب الخدمات في ميزان المدفوعات، عندما ينفق السائح الأجنبي على الفنادق، والمطاعم، والنقل، والأنشطة الترفيهية، فإن هذه الأموال تُسجل كإيرادات للدولة المضيفة، وبذلك تساهم السياحة في تقليص عجز الحساب الجاري أو تحقيق فائض فيه، على سبيل المثال، تعتمد دول مثل مصر، وإسبانيا، واليونان بشكل كبير على عائدات السياحة في تحسين مراكزها المالية الخارجية.
تأثير غير مباشر على قطاعات أخرى
لا يقتصر أثر السياحة على الإيرادات المباشرة، بل يمتد ليحفّز قطاعات اقتصادية أخرى، فالطلب السياحي ينعكس على الصناعة (منتجات الحرف اليدوية والهدايا)، والزراعة (الإمداد الغذائي للمطاعم والفنادق)، والنقل (الطيران والسكك الحديدية)، هذا التوسع في الأنشطة الاقتصادية يُسهم في زيادة الصادرات غير المباشرة، ويعزز قدرة الدولة على مواجهة الضغوط الخارجية على ميزان المدفوعات.
السياحة كأداة لمعادلة الواردات
من أبرز التحديات التي تواجه ميزان المدفوعات في الدول النامية ارتفاع حجم الواردات مقابل الصادرات. هنا تلعب السياحة دورًا معادلًا؛ فبدلًا من تصدير السلع إلى الخارج، يمكن جذب المستهلك (السائح) إلى داخل الدولة لإنفاق أمواله، هذه الآلية تُعرف أحيانًا باسم “تصدير الخدمات داخليًا”، حيث يتم تعويض نقص الصادرات السلعية بعوائد سياحية تُمثل موردًا بديلًا ومستدامًا للنقد الأجنبي.
الأزمات وأثرها المزدوج
رغم الأهمية البالغة للسياحة، إلا أنها قطاع شديد الحساسية للتقلبات العالمية، الأزمات الصحية مثل جائحة كورونا، أو الاضطرابات السياسية، أو حتى الكوارث الطبيعية، تؤدي إلى تراجع أعداد السياح، وبالتالي انخفاض الإيرادات السياحية، هذا التراجع ينعكس مباشرة على ميزان المدفوعات ويُسبب ضغوطًا على الاحتياطيات النقدية، في المقابل، تُظهر التجارب أن التعافي في قطاع السياحة يكون سريعًا نسبيًا عند عودة الاستقرار، وهو ما يجعله من أكثر القطاعات قدرة على إعادة التوازن المالي.
السياحة المستدامة وتعزيز الفوائض
من المهم أن يُدار القطاع السياحي برؤية استراتيجية قائمة على الاستدامة، فالتوسع العشوائي في السياحة قد يؤدي إلى استنزاف الموارد الطبيعية أو تدمير البيئة، وهو ما يضر على المدى الطويل بقدرة الدولة على جذب الزوار. لذلك، يُنصح بالتركيز على السياحة البيئية والثقافية، وتطوير البنية التحتية الذكية، وتبني سياسات تشجع على السياحة طويلة الأمد التي ترفع إنفاق السائح وتقلل من الاعتماد على المواسم فقط. هذه السياسات تُترجم في النهاية إلى تدفقات نقدية مستقرة تعزز فائض ميزان المدفوعات.
السياحة الدولية تمثل قوة ناعمة اقتصادية تسهم في تحسين ميزان المدفوعات من خلال زيادة الإيرادات بالنقد الأجنبي، ودعم القطاعات الاقتصادية المساندة، وتعويض الفجوة بين الصادرات والواردات، ومع ذلك، فإن الاعتماد المفرط عليها دون تنويع مصادر الدخل قد يجعل الاقتصاد عرضة للصدمات الخارجية، لذا، فإن أفضل نهج هو اعتبار السياحة جزءًا من منظومة شاملة للتنمية الاقتصادية، تُوازن بين استغلال مواردها وتعزيز استقرار ميزان المدفوعات على المدى الطويل.