طلقة قلم

محمود حربي يكتب: لا عنب ولا ناطور.. لم يعد هناك بستان

من شدة الجوع، تناقر عصافير بطني بعضها بعض ساعة من النهار، ثم تجلس تتغنى وتندب حظها العاثر الذي ألقى بها في بطن فقير يكمل عشاءه نوما.

تنظر كل منهن لفراخها نظرة تملأها الحسرة، وتعصف بها رياح الأسى على مستقبل مظلم ينتظرها.

تقول عصفورة أحرق الجوع كبدها؛ نمن يا صغاري لعل في الصباح يرزق الله صاحبنا بالخير الوفير فيطعمنا أشهى المأكولات ويسقينا الماء البارد.

ويلتف الصغار وهم بين النوم واليقظة حول العصفورة الجدة يسمعن نوادرها، بعد أن أتى الزمن على ريشها فأتلفه وعلى منقارها فأيبسه.

اعتادت العصفورة الجدة على قص النوادر الطريفة والأمنيات الوردية على الصغار، التي تبشرهم بالأمل وتذهب عنهم بعض ما يلاقون من جوع، ولكنها رأت أن تأثير ذلك ما يلبث أن يُمحى وترجع الفراخ لحزنها، فأدركت بحكمتها أن الصغار بحاجة لتقويتهم وشحذ هممهم حتى يتمكنوا من التغلب على صعوبات الحياة وما يلاقينه من أوجاع.

لا عنب فيها ولا ناطور.. لم يعد هناك بستان، هبت العصفورات الصغيرات من مجلسهن واستيقظن من كن نائمات على إثر كلمات الجدة، التي كانت ترقب عيون الصغار ومناقيرهن، ثم استرسلت في حديثها.

في بادئ الزمان كانت هناك عصفورة صغيرة تدعى روز تعيش في رغد من العيش لأبوين يطعمانها السكر والشهد.. كبرت وقوي جناحاها قليلا، فصار أبواها يصطحبانها في رحلاتهما الصباحية يزورون بستانا ضخما تخطه الأنهار وتفوح منه رائحة الزهور، يستريحون على أغصان شجرة ليمون ويراقبون عمال البستان الذين ينشغلون بأدواتهم لري الأشجار وتهذيب أغصانها، حتى إذا رآهم صاحب البستان أقبل نحوهم مبتسمًا ولوح لهم بعصاته لتحيتهم.

كانت روز تنبهر بوفرة العنب والعناقيد المتدلية، وتلتفت إلى أبويها فيقولان: “إن الرزق يا صغيرتنا لا يُنال بالكسل وإنما لا بد من كدٍ وسعي”.

مرت الأيام وروز اعتادت أن تذهب مع والديها إلى البستان يرفرفون حوله ويستأنسون بأغصانه، ثم ينالون رزقهم ويعودون إلى أعشاشهم.

وفي ذات صباح، وجد الثلاثة أبواب البستان موصدة، والأشجار عطشى والزهور ذابلة.. لكن روز لم تفهم في البداية ما جرى لعالمها، وسرعان ما أخبرها أبواها أن البستان قد باعه صاحبه فأصبح على حاله، أرضًا خاوية لا عنب فيها ولا ناطور، فحزنت روز، وبكت كما يبكي من فقد لعبته الأولى.

نظرت العصفورة الجدة، في عيون الصغار الناعسة، قائلة، إن البستان الحقيقي ليس في الزهور ولا الأشجار وعناقيد العنب، فكل هذه الأشياء لها وقت وتزول، والحياة لا تترك شيئًا على حاله، ولكن البستان الحقيقي هو ما ينبت داخل صدورنا حين نغرس بذور الأمل والتفاؤل ونسقيها بالعزيمة والصبر ليظل عامرًا أخضر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى