طلقة قلم

علي الخولي يكتب: الفينالة

القاهرة- يناير 1942:

وسط غبار الحرب العالمية الثانية، حيث الموت يتصدر مانشتات الصحف، وتتصدر اصوات الدبابات نشرات وكالات الأنباء العالمية، وقبل أيام من واحدة من كبرى الأزمات السياسية في مصر، التي انتهت بحصار الدبابات الإنجليزية لقصر عابدين، لإجبار الملك علي إقرار تشكيل حزب الأغلبية البرلمانية للحكومة المصرية، انطلق في فضاء حي باب الشعرية بالقاهرة أولى صرخات الطفله سعاد محمد كمال حسني البابا إلى الدنيا.

يقول يسري نصر الله في محاورات مع الناقد أحمد شوقي:

الفارق بين الكذب والتمثيل هو شيء أدركته من صناعة أفلامي الثلاثة الأولى، ومن موقف أهمّ، حدث عندما كان علي بدرخان يصوّر “الراعي والنساء”. حينها اتصل بي رضوان الكاشف وروى لي وجود مشكلات في التصوير تكاد توقفه، وعرض أن نذهب لنهدئ الجو باعتبار يسرا صديقتي، وسعاد حسني صديقته، فذهبنا ومعنا باسم سمرة. رأيت سعاد حسني مختلفة عن التي نراها في السينما، سيدة متقدمة في العمر، عيناها تفتقدان للبريق، طلب منها بدرخان الحضور، فقالت إنها غير جاهزة، لكنه أصرّ وبدأ التصوير، فملتُ على رضوان وقلتُ له إن سعاد كبرت، وفقدت بريقها، وأنا لا أؤمن بأشياء من نوعية الكاميرا تحبّ فلاناً، فالكاميرا مجرد آلة لا تحبّ ولا تكره. فجأة وبعد أكثر من إعادة وجدتُ هذه السيدة تتحول إلى سعاد حسني، لمعت عيناها وانفرد وجهها، وبدت كأنها شخص آخر تماماً، في صورة ملحوظة، لدرجة أنني ورضوان وباسم أخذنا ننظر إلى بعضنا البعض من وقتها بدأت أفكّر في ماهية الممثل، وأن حقيقة الممثل الإنسانية لا تظهر إلا أمام الكاميرا. يقولون إن الممثلين مملّون وكاذبون، ربما يمارس بعضهم هذا في الحياة الطبيعية لأسباب مختلفة، لكن لحظة التمثيل هي اللحظة التي يكون فيها الممثل صادقاً، بحق، يخرج من داخله مشاعر لا تظهر في حياته اليومية .

 

فلاش باك.. القاهرة- شتاء 1959:

يجلس صلاح ابو سيف بجوار ماكينه العرض يراقب بقلق رد فعل الجمهور علي مغامرته السينمائية التي حملت اسم “بين السما والارض” علي الرصيف المقابل تقف الجماهير أمام شباك التذاكر منتظره بدء عرض أحدث أفلام المخرج هنري بركات دعاء الكروان عن رواية الاديب طه حسين ويواصل فطين عبد الوهاب رهانه علي موهبة اسماعيل يس ويقدم معه اسماعيل يس في البوليس السري بينما يقدم الثنائي عبد الرحمن الخميسي وحسن الصيفي للشاشة العربية الوجة الجديد سعاد حسني وفيلم الدراما الغنائية حسن ونعيمة.

أهدى محمد خان ثلاثة من اعماله الي ثلاث مطربين .. اهدي فارس المدينه الي صوت أم كلثوم واهدي زوجة رجل مهم الي زمن وصوت عبد الحليم حافظ واهدي في شقة مصر الجديدة الي ليلي مراد .. في كل اهداء من خان ( المهدي إليه ) هو بطل رئيسي من أبطال العمل .. ورغم أن خان اهدي الثلاثة اهم اعماله الآن أن الاهداء الوحيد الذي تشعر أن خان اهداة لنفسه كان فيلم فتاة المصنع وكان الاهداء الي سعاد حسني .

 

عودة إلى الحاضر- القاهرة- استديو مصر- شتاء 1991:

تقطع سعاد الممر من غرفتها الي البلاتوة تستعد لأداء المشهد الاخير في جدول التصوير علامات الزمن نتحت آثارها علي وجهها وعلامات المرض لا تفارق خطوتها المخرج علي بدرخان يقف مع مدير التصوير بمقياس الإضاءة يراجع توزيع الضوء والظل علي المساحة ويراجع ترتيب العناصر داخل الكادر.

_ تبدأ الكاميرا في الدوران تتحرك سعاد داخل الكادر كالفراشة تختفي التجاعيد وتعلو ابتسامتها الساحرة وتخطف لمعه عيناها الكاميرا من الجميع يشير بدرخان بنهاية المشهد تعلو عاصفه من التصفيق جنبات الاستديو تغمض سعاد عيناها وتري دموعها محبوسه .

كتب أحمد ذكي في وداعها:

إليها هي.. إلى الفنانة سعاد حسني يا أكثر الموهوبين إتقانا.. وأكثر العباقرة تواضعا.. وأكثر المتواضعین عبقرية.. بوجودك ملأتي قلوب البشر بالبهجة وبغيابك ملأتيها بالحزن.. استريحي الآن.. إهدئی.. يا من لم تعرف الراحة من قبل.. لك الرحمة وكل الحب وكل التقدير.. أسكنك الله فسيح جناته.. يامن جعلت حياة الناس أكثر جمالا.

لندن- صيف 2001:

علي صوت رسالة مسجلة عبر الهاتف تبدأ سعاد يومها الرساله موجه من مدير البرنامج العربي في إذاعة ال BBC يراجع معها مواعيد تسجيل اشعار صلاح جاهين بصوتها لصالح الاذاعه تدير سعاد الريموت كنترول علي أحد القنوات التي تعرض افلام عربية كلاسيكية تترك الفيلم وتذهب للوقوف أمام المرآه تراقب أداءها لبعض الجمل الحوارية لسيناريو ” “هيرجادا سحر العشق ” للمخرج رافت الميهي كانت تستعد للعودة إلي شرم الشيخ للاستقرار بها مؤقتا قبل العودة إلي القاهرة للبدء في الاستعداد للعودة إلي البلاتوهات شعرت سعاد الحنين الي الوطن والحنين.

 

القاهرة- صيف 2001- مكتب ال ART:

يقطع الهاتف الاجتماع الدوري لمناقشة خطة البرامج يطلب المتصل من السيناريست الكبير اعداد مادة تلفزيونية طارئة عن سعاد حسني وقبل أن يسأل السيناريست عن السبب يباغته المتصل شد حيلك زوزو ماتت يترك الاجتماع ويتجة الي مكتبه ويدخل في نوبه بكاء طويل.

في وداعه قالت سعاد حسني:

صلاح جاهين، كان زي الفراشة، زي الفراشة بالظبط، هل تصدقوا إن هو اللى كان بيوريني الحركة الراقصة بتبقى إزاي، يعني كان بيقف على طراطيف صوابعه، وهو كان مليان جدًا ويحرك إيديه ويحرك جسمه زي الفراشة.كان بيورينا إزاي نقدر نحس بالحركة، وان الرقصة تعبير كامل عن أحاسيس معينة، فإذا كان بيورينا الحركة فما بالك بقى بالحوار بتاع الأغنية والمشهد.

اقول ايه..انه حلم من الأحلام لإن صلاح جاهين حقيقي حلم..طيف..وأنا في الحقيقة زعلانة جدًا إن هو مكانش بيقول لنا أحزانه .”

لندن- صيف 2001:

صوت التلفاز يذيع اوبريت صغيرة علي الحب سعاد من داخل المطبخ تنتهي من إعداد القهوة وتتراقص بجسدها المنهك برقصه الأوبريت تخرج الي الصاله ودبيب اقدام علي السلم الخارجي يتداخل في المشهد تتخيل سعاد عم جزونبل يسير في السماء العليا تقترب من النافذة لتحتضنه بينما صوت كسر الباب الخارجي للشقة ترتفع .

سعاد علي اسفلت لندن غارقه في الدماء صوت الأوبريت من التلفاز يذهب ويختفي عم حزونبل من السماء شيئا في شيئا وفي الخلفية صوت سعاد وهي تغني
وقف الشريط في وضع ثابت
دلوقت نقدر نفحص المنظر
مفيش ولا تفصيلة غابت
وكل شيء بيقول وبيعبر
من غير كلام ولا صوت
أول ما ضغط الموت
بخفة وبجبروت في يوم أغبر
علي زر في الملكوت
وقف الشريط في وضع ثابت
دلوقت نقدر نفحص الصورة
رؤية تخيلية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى