بين اللحظة التي اُغتِيل شهيد الصحافة الحسيني أبو ضيف، وتلك التي تمت فيها الحكم على الرئيس المعزول محمد مرسي، و14 متهما آخرين من قيادات جماعة الإخوان الإرهابية، وعلى رأسهم عصام العريان ومحمد البلتاجي وأيمن هدهد وعبد الرحمن عز وأحمد المغير وغيرهم، بالسجن لمدة 20 عاما في قضية أحداث الاتحادية، كانت أياما مريرة طويلة جراحها غائرة وما هي بهزيلة، وكانت أشد قسوة على أهله وأصدقائه، ومن عرفوه عن قرب، فقسوتها لا تستوعبها سطورٌ أو فصولٌ أو مجلدات كاملة لمؤلفات هائلة.
فالمصاب جَلل لكن روحه كانت تسعى إلى القصاص من جماعة الإخوان الإرهابية دون ملل، ملأ الدنيا بصرخات الحق من العالم الآخر، وقف حائط صد أمام كل من كان بالدين يتاجر، أسقط نظاما غاشما من قبره، ولف حول عنقه أحبال القصاص، فلم يكن ليبخل رحمه الله على مصر بعمره.
سقط سيد شباب الثورة في 6 ديسمبر 2012 برصاصة محرمة دوليا أطلقها قناص إخواني محترف على الجهة اليمنى من رأسه، قضى بعدها أسبوعا كاملا بين الحياة والموت بمستشفى الزهراء الجامعي، قبل أن يتم نقله إلى وحدة شريف مختار بقصر العيني، ليدفع روحه وحياته ثمنا لمحاولته كشف جرائم وخطايا الإخوان عبر كاميرته الخاصة، التي اشتراها بماله الخاص ليوثق أحداث الثورة، ويفضح الميليشيات الإخوانية التي ترتدي قناع الملائكية، وهم في الحقيقة أبناءٌ لإبليس، وعبيد للمرشد وللشاطر بل وللشيطان نفسه.
في عصر 5 ديسمبر2012 اصطحب الشهيد الحسيني أصدقاءه إلى مقر اعتصام القوى الثورية في محيط قصر الاتحادية.. ذهب إلى هناك ليبدأ مهمته التي يعشقها “وهي التوثيق والتصوير”، ونجح في تصوير أكثر من 6 ساعات كاملة للأحداث والجرائم التي ارتكبتها ميليشيات الجماعة الإرهابية ضد المعتصمين. واستطاع تصوير أسلحة تلك الميليشيات بل إنه نجح في التوصل إلى نوعيتها، إذ كان مجندا بسلاح الصاعقة بالقوات المسلحة أثناء تأديته واجب الخدمة العسكرية، كما تمكن من رصد أنواع الأسلحة الإسرائيلية، التي كانت تحملها العصابات الإخوانية يومها، فقام بتصويرها وأبلغ أصدقاءه عنها قبل اغتياله، إلا أن طلقة الغدر الإخوانية تعمدت قنصه قبل أن يرجع سالما إلى بيته ومعه توثيق كامل لجرائم مرسي وجماعته.
وفي اليوم التالي وتحديدا حينما قطع العقرب الأسود رأس الساعة الواحدة صباح يوم 6 ديسمبر 2012، أطلق قناص الإخوان طلقته المحرمة دوليا تجاه رأس الشهيد، ليضمن أنه باغتيال الحسيني ستختفي جرائم الجماعة الإرهابية يومها، ولذلك قام أحد مجرمي الجماعة بسرقة الكاميرا الخاصة بالحسيني وفرغها من “كارت الميموري” الخاص بتوثيق جرائم القتلة من الإخوان.
ظن القاتل أنه باغتيال الحسيني وسرقة كاميرته سيفلت هو وجماعته من العقاب، واعتقدوا أن رقابهم لن تقترب من حبل المشنقة، وأن محاكمتهم على قتلهم الحسيني لن تأتي أبدًا، إلا أن أسرة الشهيد وتحديدا شقيقه سالم بدأ رحلة القصاص مع أصدقائه الذين أقسموا أن حياتهم ستهون ما لم يتم القصاص لشهيد الصحافة وهو ما تحقق بالفعل فيما بعد، رغم العراقيل والعقبات التي واجهتهم في رحلة البحث عن القصاص لأبو ضيف.
في حياة أبو ضيف العديد من الأحداث والمواقف والحكايات، فرغم حياته القصيرة التي انتهت دون أن يكمل 33 عاما، إلا أنه استطاع حفر اسمه في قلوب الكثير من أصدقائه وزملائه.
وفي الذكرى التاسعة لاستشهاده تقف الكلمات عاجزة عن وصف مشاعر غيابه، فلم يكن أبو ضيف صحفيا عاديا أو مجرد مناضلا ثوريا فقط، ولكنه كان فكرة لن تموت برحيل صاحبها، فالجسد قد يرحل، ولكن الأفكار لا تموت أبدا.
وفي هذا المقال أحاول الغوص في شخصية أبو ضيف حينما كان طفلا وطالبا وثائرا وشهيدا، لأكشف جوانب قد لا يعرفها البعض في شخصية الشهيد.
الحسيني طفلا
لم ينحز أبو ضيف للدفاع عن المهمشين والفقراء في وقت متأخر من حياته، إذ كانت تلك الصفات لصيقة به منذ مولده بقرية طما التابعة لمحافظة سوهاج، كبرت تلك الصفات مع الحسيني يوما بعد يوم، ففي شارع مدرسة السلام بمركز طما –مسقط رأس أبو ضيف- كان يقف الحسيني أمام منزل أسرته وهو لا يتعدى خمس سنوات من عمره، بينما يراقبه والده الذي أعطاه خمسة قروش وقتها ليشتري الحلوى، إلا أن الحسيني كان يرفض شراء أي شيء بمصروفه وينتظر حتى ينشغل والده عن متابعته، ليهرول ناحية شحاذ معروف بشارعه ليعطيه ما يملكه من قروش قليلة لعلها تساعده في سد جوعه.
الحسيني طالبا
مواقف الحسيني طالبا تدل على أنه اتخذ العلم قبلةً يهتدي بها.. ففي مرحلة الثانوية العامة دخل أحد المدرسين الحصة السادسة ليجد الحسيني وحده جالسا في الفصل، إذ انصرف جميع الطلاب بعد الحصة الخامسة، بينما رفض الحسيني الانصراف وتمسك باستكمال اليوم الدراسي، كما هو مكتوب في الجدول، فأعجب المدرس بموقفه وشرح له الدرس وحده.
وفي إحدى امتحانات مادة اللغة العربية التي كان يدرسها له أحد أقاربه بالمدرسة، فوجئ الحسيني أنه حصل على الدرجة النهائية رغم أنه على يقين أنه أخطأ في الإجابة عن ثلاثة أسئلة، ذهب الحسيني غاضبا إلى المدرس قريبه، وقال له “أنت تجاملني لأن هناك صلة قرابة بينا”، وطلب منه تعديل الدرجة النهائية وإعطاءه الدرجة الحقيقية التي يستحقها، حتى لا ينظر زملاؤه له نظرة سيئة.
الحسيني مناضلا
كان الحسيني شغوفا بالعدل والقانون لذلك لم يكتفِ بدراسته في كلية التربية جامعة أسيوط التي تخرج فيها عام 2001، ليقرر بعدها الالتحاق بكلية الحقوق في عام 2004، ورغم حصوله على تقدير جيد جدا، فإن الكلية حرمته من حصوله على الشهادة، وكان هذا القرار عقابا له على جرأته في رفع دعوى قضائية ضد الجامعة عام 2006، بعدما وجد أن الرسوم التي تفرضها إدارة الجامعة على الطلاب غير قانونية، فبعد أن كانت 8 جنيهات لطلاب الانتظام و14 جنيها لطلاب الانتساب، زادت برسوم غير قانونية وأصبحت 250 جنيها للانتظام و260 جنيها للانتساب بخلاف التبرعات، واستفاد من تلك الدعوى التي رفعها أبو ضيف آلاف الطلاب على إثر الحكم لصالح أبو ضيف في تلك الدعوى.
الحسيني ثائرا
ساهم أبو ضيف في إحداث حالة من الحراك السياسي حينما كان طالبا بكلية الحقوق بجماعة أسيوط، ففي ليلة الانتخابات الرئاسية عام 2005، قام الحسيني بطباعة بيان حركة كفاية التي كان عضوا بها منذ تأسيسها عام 2004، وكان البيان يطالب بمقاطعة الانتخابات ووزع نحو ألف نسخة من البيان.
وبعد انتهاء الانتخابات علم الحسيني أن مبارك سيزور محافظة سوهاج، فقال أبو ضيف “على جثتي أن تطأ قدم مبارك سوهاج”، ولذلك قام بكتابة جملة “لا لمبارك.. لا للتمديد.. لا للتوريث” في شوارع سوهاج وذلك عن طريق الرش بـ”الاسبراي” وكان ذلك أحد أسباب إرجاء زيارة مبارك للمحافظة.
فالحسيني الثائر كان يتضامن مع من لا يعرفهم قبل من يعرفهم، مع المغمورين قبل الأعلام، مع الصحفيين الشباب قبل رؤساء تحرير الصحف.
الحسيني شهيدا
شارك أبو ضيف في فضح جماعة الإخوان على صفحات جريدة الفجر التي كان يعمل بها، وكشف قيام مرسي بإصدار عفو رئاسي عن شقيق زوجته وهو محمود علي بشر، الذي كان متهما في قضية رشوة، وكان قد تم الحكم عليه ثلاث سنوات، كما شارك أيضا أبو ضيف في المظاهرات التي اندلعت للاعتراض علي الإعلان الدستوري الذي أصدره مرسي 21 نوفمبر 2012، ليتم قنصه بعد ذلك بنحو أسبوعين في مجزرة الاتحادية، التي ذهب إليها أبو ضيف صحفيا فعاد منها شهيدا بطلقة غادرة.