فى الميدان

بهجت العبيدي يكتب: “أناليس” الألمانية وعروس مدينة الجمالية!

هناك العديد من الخرافات التي تنتشر في العديد من دول العالم، ومن الملاحظ أن انتشار الخرافة يتناسب عكسيا مع المستوى الثقافي والتعليمي، وكذلك مع مستوى تحرر العقل، فكلما كانت المجتمعات تتمتع بعقل سوي، ومستوى تعليمي متقدم ومستوى ثقافي يتناسب والعصر الذي نعيش فيه، كلما اختفت وتلاشت منه الخرافة، والعكس صحيح فكلما كانت الثقافة المنتشرة في المجتمع ثقافة نقلية هشة غير مبنية على أسس منهجية حديثة، وكلما كان المستوى التعليمي منحطا، وكلما كان العقل متجمدا لا يفكك ما يلقى عليه من أخبار، ولا ما يتم تداوله من حكايات، ولا ما يقبع بداخله من موروث كلما وجدت الخرافة بيئة خصبة للنمو والانتشار والشيوع، لتصبح إيمانا راسخا لدى أبناء هذا المجتمع.

وعلينا أن نسأل أنفسنا: أي ثقافة وأي تعليم وأي عقل يتمتع به المجتمع المصري؟ وفي إجابتنا على هذا السؤال والتي يمكن أن تكون من خلال الاستقراء عن انتشار الخرافات، وعن الإيمان بتلك الخرافات، وعن شيوعها، هذا الاستقراء الذي سيأخذ بيدنا ليدلنا عن نوع العقلية ومستوى التعليم ومقدار الثقافة، وساعتها أيضا يمكننا أن نصنف مجتمعنا: هل هو من بين تلك المجتمعات المتقدمة التي تحمل رأسها على كتفيها، أم هو مازال لا يلقي للعقل بالا ولا للتعليم اهتماما ولا لثقافة العصر الحديث ثقافة القرن الواحد والعشرين مكانة؟!.

إنني أزعم أن النظر فيما يعتقده الغالبية العظمى من أبناء الشعب المصري ستدفعنا دفعا للإيمان بأن مجتمعنا ما يزال يرزح تحت براثن الخرافة، ومن ثم سَيُنْظِم هذا النظر المجتمع المصري دون كثير عناء في مصاف النوع الثاني من المجتمعات، هذا النوع الذي لا يعلي العقل ولا يحترم العلم ولا يعيش ثقافة العصر. فإذا أخذنا أحدث قضية وقعت بمدينة الجمالية بمحافظة الدقهلية، لوجدنا أحداثها تغرق في الخرافات، فعروس بعد زفافها بثلاثة أيام يتم نقلها مطعونة في الرقبة بطعن ذبحي إضافة إلى عديد الطعنات متفرقة بالجسد، وتم نقل العروس على هذه الحال إلى مستشفى الجمالية، فيأمر مديرها الدكتور السيد جبل بضرورة نقلها إلى مستشفى المنصورة نظرا لخطورة الحالة. العروس، التي ماتت لاحقا، قيل في تفاصيل قصتها أنها كانت “ملبوسة” من عفريت، ذلك الذي جعل عملية الدخول بها من قبل العريس متعذرا، هذا الذي دفع العريس للالتجاء إلى “شيخ” لتخليص عروسه من العفريت الذي “يركبها”، وبالطبع فشل هذا المعالج القرآني من تخليص العروس من هذه الحالة، وهو ما كان سببا في إقدامها، كما يقال، على الانتحار.

ولو حاولنا معا تفكيك هذه الحالة لوجدنا عناصر عدة: هناك فشل في عملية الدخول بالعروس، هذه العملية التي يتشارك فيها طرفان: العريس والعروس، وفي مثل هذه الحالة فإن الغالبية العظمى من أبناء المجتمع المصري لا يلجؤون إلا للمشايخ، وذلك لاعتقادهم أن هناك من “عمل لهم عملا” هذا العمل الذي هو السبب في عدم إتمام العملية الجنسية في ليلة الدخلة، هذا أيضا الذي يعكس الحالة الثقافية للأمور الجنسية في المجتمع المصري، هذه الحالة الثقافية التي تجعل المريض بدلا من أن يذهب إلى طبيب يساعده بالطرق الطبية والوسائل العلمية على الإتيان بهذا الفعل، فإنه يلجأ إلى شيخ لــ “يفك العمل”، وإني على يقين تام بأن هناك من أوحى للعريس قبيل الدخلة بطريقة أو بأخرى بأن هناك من ربما يكون قد قام بــ “ربطه” وهنا تسيطر الفكرة سيطرة تامة على العريس فيفشل في أداء تلك المهمة، وهنا يظهر، مرة أخرى، من أوحى إليه بذلك ليدله على شيخ يفك هذا “الربط”، وهكذا يقع العريس فريسة لعملية نصب من قبل من أوحى له الذي هو نفسه، بكل تأكيد، سيقترح عليه اسم “شيخ” يستنزف منه بعض الأموال، ويوهمه أن العمل قد تم فكه، إن لم يكن لدى العريس أو العروس عوائق طبية بالطبع، فإنهما سينجحان في خوض تلك التجربة.

وهنا في قضيتنا، لم تنجح عملية الدخول، ولم تكن عملية “الرباط” هي فقط التي تحتاج إلى تفكيك، حيث قيل أن العروس كانت تسمع أصواتا وأن هناك من كان يحادثها، هذا الذي تم تفسيره على أنه جن قد تلبّس العروس، وهذه ثقافة منتشرة في مصر والعديد من الأقطار في العالم المتخلف، ولم تكن بعيدة كل البعد عن عالم اليوم المتحضر، فلعل القارئ الكريم لديه فكرة عن تلك القضية التي شغلت الرأي الألماني العام في منتصف القرن الماضي، ونعني بها قصة “أناليس ميشيل” تلك الفتاة التي ولدت في إحدى بلدات مقاطعة بافاريا الألمانية عام 1952 لعائلة كاثوليكية متدينة وعاشت حياة طبيعية حتى سن السادسة عشر حيث ظهرت عليها فجأة بعض الأعراض الغريبة كالارتجاف الشديد وعدم السيطرة على حركات بعض أجزاء جسمها، لذلك قام والديها بإدخالها إلى المستشفى لتلقي العلاج اللازم ولكن حالتها استمرت بالتدهور وبدأت تشاهد اطياف لوجوه غريبة تحدق بها وتسمع أصواتا وصرخات مرعبة في رأسها، خلال جلسات العلاج النفسية أخبرت “أناليس” طبيبها بأن جسدها مسكون وأن الأصوات الغريبة بدأت تأمرها بتأدية بعض الأعمال التي لا تود القيام بها، لكن طبيبها فسر كلامها على أنه مجرد هلوسة مما جعل “أناليس” تفقد الأمل في العلاج الطبي وبدأت تلتمس الحصول عليه عن طريق جلسات طرد الأرواح الكنسية.

ولقد أجريت آخر جلسة في 30 يوليو 1976 وكانت أناليس خلال هذه الفترة قد انهكت تماما حيث كانت تعاني من “ذات الرئة” ومن حمى شديدة كما كانت قد أمست في منتهى الضعف والنحول جراء امتناعها عن تناول الطعام لفترة طويلة وكانت آخر جملة لها خلال جلستها الأخيرة هي “أتوسل من أجل المغفرة”، وفي مساء ذلك اليوم التفتت “أناليس” إلى أمها للمرة الأخيرة وقالت بصوت متهدج “أماه، إني خائفة” وكانت هذه هي آخر كلماتها إذ فارقت الحياة في نفس الليلة.

وفي هذه القصة الحزينة كان للسلطات الألمانية دور هام حيث قامت الشرطة باعتقال القسّيْن اللذين أجريا جلسات طرد الجن وكذلك والدي “أناليس” بتهمة الإهمال المؤدي إلى الموت فحسب تقرير الشرطة فإن السبب الرئيسي لموت أناليس كان الجوع نتيجة امتناعها عن تناول الطعام وخلصت الشرطة بأنه لو تم إجبار “أناليس” على تناول الطعام قبل أسبوع من وفاتها لكان بالإمكان تفادي موتها.
إن الموقف الذي اتخذته السلطات الألمانية لهو الجدير بأن تتخذه كل السلطات الساعية لتحرير العقل من الخرافات، وهذا الذي نطالب به السلطات المصرية بضرورة محاربة مثل تلك الخزعبلات التي تصيب العقل المصري في الصميم، هذا العقل الذي هو واقع بين براثن بعض ممن يطلق عليهم شيوخ ويشيعون الخرافة في المجتمع، ولعل آخرها هي تلك التي خرج علينا فيها بإحدى القنوات الفضائية شيخ يُنْسَبُ للأزهر الشريف ليعلن أن الجن يمكن أن يسرق الطعام أو الأموال والذهب من البيوت، وكأني بما قاله الشيخ دعوة للسرقة يتم اتهام الجن بارتكابها، كما تم، في عقل العوام، نسب مقتل عروس الجمالية له.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى