لم أحزن على عدم مشاركتي في جنازة أحد، قدر حزني على عدم نيل شرف تشييع علي إبراهيم، عرفت في وقت متأخر بعد أن ووري الثرى.
علي لم يكن شخصا عاديا، وإنما شخصية روائية بامتياز.. تقلبت به الدنيا من شخص حالم وقيادي في الحركة الطلابية صاحب عقلية فريدة من نوعها، وصحفي مدقق وجاد، ومحلل سياسي ثاقب النظرة غزير المعلومات، إلى شيخ ضرير يموت وحيدا فقيرا ولا ينتبه الجيران لوفاته إلا بعد مرور يومين، لا يعرف أحد أهله لإبلاغهم نبأ موته، ويضطر نبلاء من أهل المهنة إلى البحث له عن قبر، وفي النهاية يتطوع جار محسن له بدفنه في مقابر عائلته.
لم أعرف علي إبراهيم إلا كهلا في نهاية الثمانينات، لكن حكاياه كشفت أنه ضحية فقدان الثقة .. فقد الثقة في اليسار المصري الذي انتمى إليه، وتكونت من خلال أقطابه ومفكريه ثقافته ومعارفه، فقد هاله أن يقوم منتسبون لليسار بالإبلاغ عن زملاء لهم في التيار بعد انتفاضة 18و19 يناير 1977، ممن قادوا أو خططوا لتلك الهبة الجماهيرية، فألقي القبض عليهم.
ثم جاءت معاهدة الصلح مع إسرائيل وما تبعها من خطوات تطبيع فأفقدته الثقة في مؤسسات الدولة وكادت أن تصيبه بالجنون، إذ كيف يعبر مصري فوق جماجم كل شهداء الصراع ويخوض في دمائهم، ليصافح اليد التي قتلتهم؟!
علي إبراهيم القيادي الطلابي الحالم لم يعد موجودا، قتله عشقه لتياره وعشقه لبلده، رأيت شخصا آخر تماما تقتحمه عين من لا يعرفه، متوجس من كل شيء، لا يثق في أحد، ويتخيل أن أجهزة مخابرات أمريكية وإسرائيلية تعبث في مصر كما تشاء، وأنها تتتبع خطوات كل وطني مخلص، وزاد من توجسه اغتيال يحيى المشد في 14 يونيو 1980 (رغم وقوعه بالخارج)، ثم اغتيال سعيد السيد بدير في 14 يوليو 1989 بعد كشفه عن أبحاث لكيفية السيطرة على قمر صناعي معادي لصالح مصر، وما تردد من معلومات عن ضلوع يد خارجية في قتل جمال حمدان (17 أبريل 1993م) ، واختفاء مسودات بعض الكتب التي كان بصدد الانتهاء من تأليفها، وعلى رأسها كتابة عن اليهودية والصهيونية والذي كان يقع في ألف صفحة.
فقدان الثقة في كل شيء.. وما أعقب انتفاضة 18 و19 يناير الذي لم يغادر مخيلته، دفعه إلى ترك صحيفة الأهالي والعمل في مكاتب عربية لايدوم العمل بها في العادة، ودفعه أيضا إلى عدم الزواج واتخاذ أصدقاء مقربين له إلا نادرا، حيث لم تزد الدائرة التي يثق فيها عن شخص، أو اثنين.
ظل علي إبراهيم بصحة جيدة تمكنه من ارتداء قميص بنصف كم في عز صقيع الشتاء، لكن الوساوس ظلت تفترسه على مهل، مرة رأيته يرتدي كيسا بلاستيكيا فوق الجورب وحين استفسرت لماذا؟ ضحك ضحكته الشهيرة وأجاب: ألا تعرف أن الصهاينة يرشون مواد مشعة في طريقي؟! في السنوات الأخيرة بدأ بصره يذهب، أحاول اصطحابه لطبيب عيون لكن قناعاته بأنه مستهدف تجعل كل المحاولات سدى!
في آخر سنواته لم يعد علي إبراهيم يظهر، ولم يعرف له أحد عنوانا، اختار الوحدة والانعزال عن كل الناس بعد أن كف بصره، فلم يشأ – وهو العفيف المعتز بذاته – أن يكون عالة على أحد.
مات الرجل وحيدا في غرفة مؤجرة ليلقى وجه ربه بعشق لا يحد لبلده، خرج من الدنيا كما دخلها، وذلك جزاء العشاق المتيمين في بلد –اختلط فيه الحابل بالنابل- ولم يعد أحد يعرف فيه تلك اللغة!
طوبى لك ياصديقي الراحل وطوبى لكل الغرباء.