محمد بشر يكتب: خيار النخبة.. من البراغماتية إلى الحسم في تحول استراتيجي ينهي عصر الازدواجية في تعامل الغرب مع الإسلام السياسي
لطالما عاملت العواصم الغربية جماعة الإخوان المسلمين بـ “ترف” يشوبه الكثير من الغموض ككيان يجمع بين العمل الخيري والتعبئة السياسية في دول الشرق الأوسط، يخدم بعض المصالح، يشكل ضغوطاً سياسية على قادة الدول، يستخدم كشبكة تمويلية واسعة، يتوارى عن العنف المباشر في ثوب الدين والسياسة، مع وجود أجنحة عسكرية تنتهج العنف غير مرتبطة علناً تحقق أهداف ممولي الجماعة.
تلك المنطقة الرمادية كانت صمام أمان التنظيم لعقود، ولكن المؤشرات اليوم، وخاصة بعد عودة إدارة الرئيس دونالد ترامب وتصريحه القاطع في نوفمبر 2025، تدل على أن زمن الاستخدام انتهى وحلّ محله زمن التصفية.
القرار الأميركي المرتقب ليس مجرد “تصنيف”، بل هو تصفية حسابات استراتيجية مع نموذج نفوذ بائد في الشرق الأوسط يشكل عبء الفشل السياسي، مع تعزيز حالة عدم استقرار غير مرغوب عند الإدارة فيها بمنطقة الشرق الأوسط.
كانت اللحظة الفاصلة في تاريخ الجماعة هي اللحظة التي مُنحت فيها السلطة في القاهرة ووصول محمد مرسي للرئاسة بعد عام 2011؛ كان هذا بمثابة “اختبار النضج”، وقد فشلت فيه الجماعة فشلاً ذريعا، حتى وصلت إلى الصدام العبثي مع المؤسسات وتنامي الاحتقان الشعبي الذي انفجر في 30 يونيو 2013، مما أثبت أن التنظيم الذي امتاز ببراعة المعارضة يفتقر تماما إلى مهارات الحكم.
فالانهيار السياسي أعقبه انهيار أمني مُكلف قدم للحركات المتطرفة في المنطقة الذريعة التي كانوا ينتظرونها.. فبينما كانت الجماعة تتعثر في منافيها كانت سيناء تشهد تحول “أنصار بيت المقدس” إلى “ولاية سيناء” التابعة لتنظيم الدولة، والأسوأ من ذلك أحداث كرداسة والإرهاب العلني في مصر، وأيضاً حادثة اغتيال النائب العام هشام بركات في يونيو 2015، التي ربطت –بحسب التحقيقات– بين العنف المحلي لجماعة الإخوان والتدريب لدى كتائب القسام في غزة.
هنا أصبحت العلاقة الفكرية بين الجماعة الأم والذراع المسلح (المكرسة في ميثاق حماس لعام 1988) بمثابة الدليل المؤسِّس على أن هذه الشبكة تنتج بيئة صالحة للعنف وتدعمه مادياً ولوجستياً لتحقيق أهدافها، حتى لو لم تحمل قيادتها السلاح بنفسها.
سيف القانون وتغيير المعادلة الأمنية
في واشنطن لم يكن التغير سياسياً بالقدر الذي كان فيه فلسفيا؛ فبعد عقدين من الحرب على الإرهاب أدرك صانع القرار أن التهديد لا يكمن فقط في “من يحمل البندقية”، بل في “من يمول ويوجه ويوفر الغطاء.
لقد أصبح تنظيم الإخوان الدولي في هذا الإطار هو “الشبكة الناعمة” التي تُعيد إنتاج التطرف عبر واجهاتها، ولذلك سعى المشرع الأميركي لترسيخ هذه الفلسفة بحرص، فقام بمحاولات تمرير مشروع “Muslim Brotherhood Terrorist Designation Act” بدأت منذ 2015 وتكررت في جلسات الكونغرس بانتظام.
وفي عام 2025 كانت إعادة طرح القانون H.R. 4397 وتصنيف الجماعة في ولاية تكساس بمثابة إشارات لا تخطئها العين تفيد بأن المناخ القانوني قد نضج بما يكفي لتنفيذ ما كان مستحيلاً بالأمس وواجه عقبات.
لقد باتت الحجة المركزية الآن هي أن الجماعة منظومة نفوذ متعددة العُقد تستغل واجهات خيرية وإعلامية وسياسية عابرة للقارات لـ”تجنيد وتعبئة” و”تمويل غير مباشر”، ما يمنح الحركات المسلحة في الشرق الأوسط وأوروبا بل والولايات المتحدة الأمريكية عنصرا لوجستيا يصعب تعطيله ويجب مواجهته.
براغماتية أنقرة وطعنة الحليف
كان الضغط الخارجي مهما لكنه لم يكن ليبلغ هذه الفعالية لولا تركيا.. فمنذ 2013 أصبحت أنقرة المظلة التي يلوذ تحتها الفاعلون من التنظيم بفضل الدعم المباشر وغير المباشر من حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان.
لكن أردوغان السياسي البراغماتي بامتياز أدرك أن ثمن الحفاظ على “الورقة الإخوانية” أصبح باهظا جدا في ظل الحاجة الماسة للمصالحة الإقليمية مع دول الخليج والقاهرة، التي صنفت مبكرا جماعة الإخوان كجماعة إرهابية وقامت بالتحفظ على أموالهم وممتلكاتهم بقرارات قضائية ونصوص قوانين.
ومع تآكل الاقتصاد التركي وتزايد التحديات الجيوسياسية في شرق المتوسط، قررت أنقرة تصفير المشاكل، فباعت الجماعة على مذبح المصالح القومية، ومن هنا تحولت إسطنبول من ملاذ آمن إلى غرفة ضغط، ما كشف الحقيقة القاسية: الدول لا تتحالف مع الأيديولوجيات إلا بقدر ما تخدم مصالحها القومية.
الحسابات الأخيرة
القرار الأمريكي –رغم العقبات– سيكون عملية “جراحة استراتيجية” تهدف إلى القضاء على المنطقة الرمادية التي عاشت فيها الجماعة، وسيؤدي إلى تجميد الأصول عالميا وتفكيك الشبكات في أوروبا والولايات المتحدة، والأهم من ذلك أنه سيفرض مواجهة دبلوماسية قاسية على تركيا وقطر لإعادة ضبط علاقتهما بالتنظيم.
الخلاصة هي أن ترف التسامح مع هذه الشبكة العابرة للحدود في عشرات الدول قد انتهى؛ لأن العالم في 2025 عالم شبكات وتكنولوجيا مرتقبة وتمويل معقد تتطلب استقرارا إقليميا يساعد على نمو الأعمال، لن يتحقق في ظل وجود جماعات أيديولوجية عقائدية مسلحة تهدد استقرار الشرق الأوسط بين الحين والآخر.
فالنظام العالمي قرر أن لا يمنح فرصة ثانية لكيانات تجمع بين طموح سياسي إقليمي أو عالمي له خلفية عقائدية ثبت تطرفها ومساهمتها في عدم الاستقرار بارتباطات هيكلية بالعنف والسلاح.
ومن هنا جماعة الإخوان كتنظيم دولي لم تعد مجرد خصم سياسي ينافس على السلطة وله برنامج، بل أصبحت نموذجا بائدا لصناعة العنف وتأجيج الصراعات.
هو مسار أصبح لا يصلح مع رؤية الشرق الأوسط في ثوبه الجديد، لأنها مصدر تهديد للمصالح وغير متوافق مع متطلبات الأمن القومي العالمي ورؤيته الجديدة.. فهي ببساطة وبهدوء ملف تقرر تفكيكه ثم إغلاقه.






