طلقة قلم

المستشار محمد بشر يكتب: المتحف المصري الكبير.. صرح شاهد على حضارة عظيمة

 “مصر تشهد على قِدم كل هذه الأشياء، فالمصريين يظهرون أنهم أقدم الشعوب على الإطلاق؛ ولديهم قوانين ونظام سياسي راسخ موجود منذ زمن سحيق.”

(Politics, 1329b 27-33)

بهذه الكلمات التي تجاوزت حدود الانبهار، لخّص الفيلسوف الإغريقي الكبير أرسطو الذي وضع مع تلاميذه أسس العلوم والفكر الغربي ما أصابه من ذهول حين زار أرض مصر القديمة.

لم يكن يتحدث عن أهرامات شاهقة او معابد تخلب هندستها ونقوشها الالباب فحسب، بل عن نظامٍ حضاري متكامل جمع بين العلم والفن والعدل والحكمة في بنيةٍ لم يعرف التاريخ مثلها.

أما أفلاطون فقد قال في محاوراته : “إن المصريين هم أقدم البشر علمًا وأكثرهم حكمة، وقد حفظوا نظام دولتهم لأكثر من عشرة آلاف سنة.”

وأكد أن الفلسفة والرياضيات والطب والفلك كانت هناك، في مصر، قبل أن تُولد اليونان فكريًا.. واؤكد بل وروما ايضا

مصر.. أستاذة ومعلمة العالم القديم

منذ آلاف السنين، تجاوزت السبعة آلاف عام قبل الميلاد وزد فى العدد كيفما تشاء كانت مصر القديمة بمثابة الولايات المتحدة للعالم القديم بلا منازع لسلطانها حيث كانت مركزًا للقوة العسكرية المنظمة الكبيرة ومركزا للسيادة والحكم ومصدرًا للريادة العلمية، والنظام الاجتماعي، والإبداع الفني بل والتقنى بمفهوم العصر القديم .

لم تكن دولة تبحث عن مجدٍ عابر، بل كانت نظامًا حضاريًا شاملًا استطاع أن يُصدر العلوم إلى العالم القديم كما تُصدر الامم المتقدمة اليوم التكنولوجيا.

فمنذ فجر التاريخ، كانت مصر منارة المعرفة الأولى، تمدّ الحضارات المجاورة بالعلم والمنهج ..

وحين كانت أوروبا غارقة في ظلام الصراعات والأساطير والحواديت كانت مصر قبلها بالاف السنين أول من كتب بالقلم، وأول من اخترع الورق (البردي)، وأول من وضع الرموز والحروف، وأول من دوّن القوانين في مفهوم “الماعت” ميزان العدالة والنظام الكوني.

كانت أول من أسس دولة بمفهومها الحديث، وأول من أقام مؤسسات، وأول من أنشأ جيشًا نظاميًا، وجهاز استخبارات واستطلاع متكامل منذ الاف السنين ..

هي أول من وضع أسس الطب والجراحة والتشريح، وأول من أسس الرياضيات والهندسة والفلك، وأول من صاغ مفهوم العدالة كقيمة أخلاقية قبل أن تسنها قانونًا وضعيًا.

كانت مصر وشعبها أول منارة على الأرض تُعلّمت منها الإنسانية معنى الدولة ومؤسساتها والعدل والحكمة..

أون.. أول جامعة في التاريخ

في مدينة أون (هليوبوليس) المطرية حاليًا قامت اول جامعة علمية منظمة في التاريخ الإنساني.

هناك، كان الكهنة والعلماء يدرّسون الرياضيات والهندسة والطب والفلك والأدب والفن والعمارة وفلسفة الروح والدين.

وكان ملوك الأمم الأخرى يبعثون أبناءهم إلى مصر للتعلّم فى مدارسها وجامعاتها .. وقد كان يكفي أن تبعث عالمًا مصريا واحدًا إلى أية أرض، ليُقيم فيها نظامًا ودولة بل وحضارة .

وقد فعل ذلك المهندسون والأطباء والمعماريون والنحاتون والكتبة المصريون في بلاد الرافدين، وآشور، والحيثيين، وفينيقيا، وحتى في اليونان القديمة.. فبنيت حضاراتهم على اسس من علوم مصر القديمة ..

نعم كان لمصر أثر كبير في الحضارات الكبرى فى منطقة الشرق الاوسط القديم

والأدلة الأثرية والعلمية تُثبت أن مصر لم تكن منعزلة، بل كانت المحور المركزي الذي دارت حوله حضارات الشرق الأدنى والبحر المتوسط:

السومريون والبابليون.. استعانوا بالرموز العددية المصرية، واعتمدوا التقسيم الزمني المأخوذ من الفلك المصري — اليوم إلى 24 ساعة، والسنة إلى 365 يومًا

الحيثيون والآشوريون.. أخذوا نظم القانون والإدارة من مصر. معاهدة قادش بين رمسيس الثاني وحاتوسيل الثالث تُعدّ أقدم معاهدة سلام مكتوبة في التاريخ، واحتوت مبادئ قانونية أصبحت أساسًا للمنظومات القانونية الحديثة.

اليونان.. أقرّ هيرودوت بأن المصريين علّموا الإغريق مبادئ الهندسة والفلك، وأن الفلسفة والعلوم انتقلت من مصر إلى بلادهم.

حتى فيثاغورس تعلّم في معابد أون قبل أن يضع نظريته الشهيرة، التي كانت في الأصل جزءًا من مناهج المصريين في حساب المساحات الزراعية للنيل وبناء المعابد.

وهكذا، لم تكن مصر تتبادل المعارف، بل كانت المصدر والمنهج والمعلم الأول للحضارة الإنسانية وكل حضارة قامت بالمنطقة .

المتحف المصري الكبير يحفظ ذاكرة أمة وشاهد على حضارة عظيمة قامت منذ فجر التاريخ

حين ننظر اليوم إلى المتحف المصري الكبير، لا نراه مجرد متحف للآثار، بل شهادة ناطقة على أمة علّمت العالم كيف يبني حضارته.

يقف هذا الصرح العملاق على مساحة تتجاوز نصف مليون متر مربع، أمام الأهرامات مباشرة التي ما زالت تحيّر العالم حتى اليوم في طريقة بنائها في توازنٍ مهيب بين الماضي والمستقبل.

قالوا ان مصر تمتلك ثلث اثار العالم ولكن الحقيقة ان مصر هى كل اثار العالم القديم

يضم المتحف أكثر من ١٠٠ ألف قطعة أثرية من ٢ مليون قطعة اثرية فى مخازنها غير الذى لم يخرج حتى الان من باطن ارضها من تمثال الملك خوفو وتحتمس الثالث والملك رمسيس الثانى اول مرمم لاثار مصر القديمة وابنه مرنبتاح إلى كنوز توت عنخ آمون وغيرهم من ملوك عظماء يشهد التاريخ على امجادهم ومن برديات الطب والفلك إلى نقوش الإدارة والاقتصاد والقضاء والقانون ..

لكنه ليس مجرد صالة عرض، بل مركز عالمي للتعليم والبحث العلمي والتعاون الثقافي، وشاهد حيّ على عبقرية الإنسان المصري الذي بنى، ونظم، وعلّم، وكتب، وفكر قبل أن يعرف العالم معنى الحضارة.

إنه مؤسسة فكرية وثقافية كبرى، تذكّر العالم أن مصر لم تكتفِ ببناء الأهرامات، بل بنت العقل الإنساني ذاته، وأسست مفهوم الإنسانية.

إنها مصر الكبيرة التي لا تُشبه أحدًا.. 

حين كتب أرسطو أن عقله ذهب مما رأى، كان يعني أن مصر تجاوزت حدود الإدراك البشري.

ففيها التقت الهندسة بالعقيدة، والفن بالعلم، والروح بالمنطق.

عرفت الطب قبل أبقراط، والعدل قبل سولون، والحكمة قبل سقراط.

كانت الدولة عندها عقدًا اجتماعيًا بين الإنسان والكون، لا مجرد علاقة بين الحاكم والمحكوم.

ولذلك لم يكن غريبًا أن يقول أفلاطون: اليونان ليست إلا طفلاً يتعلّم من أمّه مصر.. وان عقله كاد ان يذهب مما رأه عندما زار مصر تلميذا يتعلم من اساتذتها .. المتحف المصرى الكبير يقول اليوم للعالم كله هكذا كانت مصر وهكذا كنا وهكذا سنكون وسنبقى .. يقول لم ينفصل تاريخنا عن حاضرنا وعن واقعنا وكما بنى الاجداد حضارة علمت العالم سنكمل مسيرتهم وستستعيد مصر امجادها يقف المتحف المصرى الكبير شامخا يقول للعالم اننا نستكمل المسيرة الاجداد نشيد حضارتنا من جديد نفتخر بماضينا وننظر لمستقبلنا بأمل وجد وجهد وعمل يقول ان الاجداد حاضرون لم يغيبوا عن مصر يدهم بيد الأحفاد في مسيرة لم تنفصل ومسار كان دوما متصل.. هنا حين يتكلم الحجر والأثر باسم الأمة

إن المتحف المصري الكبير ليس بناءً من الحجر والزجاج، بل مرآة لأمة علّمت العالم كيف يفكر وكيف يبني وكيف يحلم.

إنه رسالة خالدة تقول “مصر لم تخرج من التاريخ، بل التاريخ خرج منها.”

ولأنها كانت في يوم من الأيام عاصمة العلم والحكمة والعدل والفن، فإن افتتاح هذا الصرح ليس عودة إلى الماضي، بل استئناف لمسيرة بدأت قبل سبعة آلاف عام قبل الميلاد وما زالت تُكتب حتى اليوم بأيدي المصريين.. مصر لم تكتفِ بصناعة التاريخ.. بل علمت العالم كيف يُصنع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى