حكايات يقصها: الكاتب الصحفي طاهر عبد الرحمن
في عدد 3 مارس 1978 من جريدة الأهرام كتب الكاتب الكبير توفيق الحكيم مقالا تحت عنوان «الحياد» طرح فيه فكرة أن تعلن مصر حيادها على غرار حياد دولة سويسرا، وأن تعزل نفسها عن كل قضايا الإقليم والعالم لما في ذلك – كما قال – منافع سياسية واقتصادية (وأعاد تأكيد دعوته/فكرته في مقال ثان بعنوان: «ندوات الحياد» نشره في عدد يوم 13 مارس في الأهرام أيضا)
وبالطبع أثارت هذه الدعوة/الفكرة الكثير من الجدل بين مؤيد ومعارض، فمثلا أيدها المفكر المعروف د. حسين فوزي (السندباد المصري) وحاول المفكر والناقد د. لويس عوض أن يمسك بالفكرة من المنتصف ويعيد صياغتها فكريا وسياسيا واستراتيجيا.
لا يخفى على المتابع لتلك الفترة التاريخية في حياة مصر أن تلك الدعوة جاءت بعد شهور قليلة من مبادرة السلام التي قام بها الرئيس السادات وزيارة إسرائيل، بكل ما ترتب عليها من نتائج سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية واستراتيجية.
ولم تكن تلك النتائج قد ظهرت وبانت كما عرفناها فيما بعد، ولكن مؤشراتها كانت محسوسة، ولذلك فإن المعارضين لفكرة توفيق الحكيم هاجموها بقوة شديدة ونددوا بها بكل طاقتهم، كما فعل على سبيل المثال الناقد رجاء النقاش في سلسلة مقالاته في مجلة المصور، والتي جمعها فيما بعد في كتابه: الإنعزاليون في مصر، وأيضا كما فعل الكاتب الصحفي الشهير أحمد بهاء الدين بأسلوبه الهادىء والمتزن.
لكن الغريب هو أن هؤلاء المعارضين في كل ما كتبوا لم يوجهوا نقدهم إلى صاحب الفكرة الأصلي، وهو توفيق الحكيم وحسين فوزي، بل انصبت كلها إلى الدكتور لويس عوض، مع أنه لم يكن إلا مجرد شارح ومفسر لفكرة الحكيم!
وبعض النظر عن ذلك الموقف الغريب، فإن كاتبا واحدا هو من وجه كل النقد (وما هو أكثر من النقد) إلى توفيق الحكيم مباشرة ودون لف أو دوران، وهو الدكتور يوسف إدريس.
في عدد يوم الخميس من جريدة الأهرام، 22 إبريل 1978، كتب تحت عنوان “إلى الكبير الحكيم” مقالا يرد فيه على دعوة – كما قال – صديقه وأبيه وأخيه الكبير توفيق الحكيم عن الحياد، لكن من الواضح أن ذلك المقال تأخر إدريس في كتابته سنوات، فهو يشير إلى كتاب “عودة الوعي” الذي كتبه الحكيم بعد وفاة جمال عبد الناصر، وفيه كلام كثير عن فترة حكمه وسياساته، والغريب أن إدريس لا يعتبره كتابا بل “نكتة”، فلم يكن تحليلا سياسيا أو حتى “بورتريه” يكتبه شيخ من شيوخ الكتابة عن زعيم رحل، بل هو مجرد “شيء” لا يرقي إلى أي شيء!
ويوضح الدكتور إدريس أن ما بينه وبين الحكيم كثير وكثير لا يقتصر فقط على الجلسة الأسبوعية التي تضمهما مع أخرين في الدور السادس في الأهرام، ولكنها علاقة قديمة، مشيرا إلى أنه تعود ألا يأخذ آراء الحكيم السياسية على محمل الجد طول الوقت، فهو – أي الحكيم – كان طول الوقت يسير عكس الاتجاه، ففي الثلاثينيات من القرن العشرين كان المصريون يحاولون إقامة حياة سياسية ديمقراطية فإذا به يخرج عليهم بنظرية المستبد العادل، وأيضا كانت المرأة المصرية تستعد للخروج من الظل إلى النور فإذا به يجهر بعداوته لها.. وهكذا!
وأما بخصوص ما أسماه الحكيم “حيادية مصر” فإن يوسف إدريس يصفها – بشكل مباشر هو أنها دعوة خطيرة جدا تهدد مستقبل مصر كله، ولذلك فإنه لم يتردد أن يقول أنه لو أصر الحكيم عليها فإن ذلك سيكون فراقا أبديا بينهما.
في مقدمة المقال كتب إدريس ساخرا من تلك الدعوة لأقصى درجات السخرية، وفي نهايته قال إن ما يكتبه الحكيم ليس كتابة بل مجرد علامات طباشير “تقود إلى طريق تعرفه جيدا، بل أنت واع به تماما” (نص كلام إدريس).
المثير في هذا المقال/الخطاب أنه يحمل إشارات غامضة وجهها إدريس إلى الحكيم، منها قوله “أننا نفهم بعضنا جيدا” وأن دعوة الحياد تلك “ليست من بنات أفكار الحكيم”، وأكثر من ذلك هو إنها – كما ألمح – “بالونة اختبار” من أجل شيء أو من أجل سياسة معينة (لم تكن واضحة وقتها).
الأكثر إثارة في كل ذلك هو أن تقوم جريدة الأهرام بنشر هذا المقال (على الصفحة الثالثة) وهذا أمر – في اعتقادي – ليس له علاقة بالحرية أو الديمقراطية أو بمكانة كاتبين كبيرين من كتاب مصر بقدر ما كان الهدف هو إثارة الجدل حول ذلك الموضوع وإبرازه للرأي العام، وربما كان نوعا من التهيئة له.
في ذلك الوقت كان نظام السادات يواجه تحديات كبيرة، سواء تعنت إسرائيل في المفاوضات معه أو موقف العرب المتحفظ والمنتظر، وكان السادات – للأسف الشديد – يعرف أنه سائر إلى اتفاق بين مصر وإسرائيل، وأن مناحم بيجين لن يعطه شيئا على الصعيد الفلسطيني أو السوري، ومن هنا ظهرت تلك دعوة الحياد تلك، واختاروا لها توفيق الحكيم بكل ما يعنيه اسمه ومكانته، وربما كان ذلك ما يقصده يوسف إدريس في