في مساء يوم الأربعاء 27 أكتوبر 1971 اختتمت فرقة باليه اليونان بروڤاتها على مسرح دار الأوبرا المصرية بالقاهرة، وكان من المقرر أن تبدأ عروضها للجمهور مساء اليوم التالي.
كان الناس في المنطقة (الأوبرا/العتبة) ينتظرون مدفع الإمساك، استعدادا لليوم التاسع من شهر رمضان، حين بدأوا يستنشقون دخانا كثيفا ملأ الجو، ولساعات لم يعرف أحد مصدره.
في الساعة الخامسة من صباح يوم الخميس، 28 أكتوبر، اكتشف الجميع أن مصدر الدخان هو حريق هائل اندلع داخل دار الأوبرا.
بحسب تقارير المعاينة، التي نشرتها جرائد الأهرام والأنوار والنهار، فإن النار ظلت مشتعلة داخل الدار لمدة تزيد عن الساعتين قبل أن يكتشف أحد الحريق، وهو ما أدى إلى انتشار النار لكل أركانها، ولما كانت كلها مبنية من الخشب ومدهونة بطبقات كثيرة من مواد قابلة للاشتعال، فإنه كان سهلا أن تأكل النار المبنى كله.
في الساعة الثامنة والنصف صباحا من ذلك اليوم انهار مبنى دار الأوبرا المصرية بعد مرور 102 عاما من بنائها، وفقدت مصر جزءا كبيرا من تاريخها الفني والثقافي لا يعوض، بالإضافة إلى خسائر مادية بلغت قيمتها 10 ملايين جنيه، بقيمة النقود وقتها.
من الخسائر (كما عرضتها جريدة الأهرام): مخزن ديكور الدار وهو واحد من أكبر مخازن دور الأوبرا في العالم، مساحته 2500 متر وعمقه 40، وتقدر محتوياته ب 2 ونص مليون جنيه، وفيه ديكورات 3200 أوبرا ومسرحية قام برسمها وتصميمها كبار فناني العالم، وأيضا مخزن الأسلحة ويضم 2000 قطعة بين أسلحة ودروع، من بينها قطعا أصلية استخدمت في حروب نابليون بونابرت، كذلك المسودة الأولى لأوبرا عايدة بخط يد الأثري الفرنسي، ميريت باشا والموسيقار ڤيردي، بالإضافة إلى مسودات 100 أوبرا أخرى.
وكما هو معتاد في مثل تلك الحوادث فإن التحقيقات انتهت بالحفظ ولم يتم تقديم أو العثور على أي متهم.
من المفارقات أن دار الأوبرا المصرية كانت تستعد بعد شهرين ، تحديدا يوم 24 ديسمبر، للاحتفال بمرور مائة عام على تقديم أوبرا عايدة على مسرحها، لكن على ما يبدو أن تلك الأوبرا كانت تطاردها لعنة من نوع ما، فلم يحتفل المصريون باليوبيل المئوي لها، تماما كما حدث عند تأليفها، عام 1869 بمناسبة افتتاح قناة السويس، وكان من المقرر أن تقدم في الاحتفالات لكن نشوب حرب السبعين حال دون وصول كافة المعدات من باريس، وقدمت أوبرا ريجوليتو بدلا منها، وبعدها بعامين، 1871، قدمت عايدة على مسرح دار الأوبرا المصرية.
كان الخديوي إسماعيل، وبمناسبة افتتاح قناة السويس قد دعا عددا كبيرا من ملوك وملكات العالم، وبهدف تقديم احتفالا يليق بمقامه ومقام ضيوفه قرر بناء دار أوبرا في القاهرة، وكلّف اثنين من المهندسين الإيطاليين ببنائها بأقصى سرعة، وبالفعل انتهى البناء في 6 أشهر فقط.
ثلاثة أمور “غريبة” جدا ارتبطت بتاريخ ذلك المنبى:
1- عندما أراد الخديوي إسماعيل بناءها في وسط القاهرة طلب شراء الأرض من أصحابها مقابل مبلغ زهيد ولكنهم رفضوا البيع، وفي ليلة من الليالي نشب حريق هائل في تلك الأرض أتى عليها وعلى كل مبانيها، ولم يكن أمام أصحاب تلك الأرض سوى بيعها بالمبلغ الذي عرضه الخديوي.
-أي أنها بدأت بحريق وانتهت بحريق!
2- نص قرار إنشاء دار الأوبرا المصرية على أنها “دار مؤقتة حتى يأتي وقت ويتم بناء دار جديدة”.
– أي أنها ظلت طوال 102 عام دارا مؤقتة!
3- بعد 7 سنوات فقط من بنائها قام الخديوي إسماعيل برهن أرض ومبنى الأوبرا المصرية لرجل أعمال إيطالي اسمه “ايكالبوا لولو” مقابل 9 ملايين و33 ألف جنيه و584 قرشا.
٠بعد الحريق بعدة أيام اجتمع مجلس الوزراء وأعلن تكليف لجنة تضم: أحمد بهاء الدين وأحمد الصاوي محمد وزكي طليمات وشكري راغب وصلاح طاهر (مع المتخصصين والمهندسين) لدراسة وتخطيط بناء دار أوبرا جديدة، وأعلن الدكتور محمود فوزي، رئيس مجلس الوزراء، تخصيص مبلغ 2 مليون جنيه ونصف من الميزانية العامة لذلك الغرض، وقرر مجلس الوزراء أن يكون مكان المبنى الجديد بجوار مبنى التليفزيون على كورنيش النيل أو في العباسية على مدخل مدينة نصر، وتقرر أيضا أن يؤجل البت في استغلال أرض الأوبرا القديمة فيما بعد.
٠ وكما هو معروف فإن مصر ظلت بدون أوبرا حتى عام 1988 عندما افتتحت الدار الجديدة في جزيرة الزمالك بمعونة يابانية.
٠الأمر الأكثر غرابة في كل هذه الحكاية هو أنه – بحسب ما نشر في الجرائد وقتها – كان من المفروض قيام لجنة من وزارة الثقافة بعمل جرد كامل لكل محتويات الدار وكان من المقرر أن تبدأ عملها في نوفمبر.. شهر بعد الحريق؟