في العمق

محمد بشر يكتب: القاهرة تخطو نحو غاية قومية من مدينة التاريخ والآثار إلى عاصمة التكنولوجيا

تتحول القاهرة، التي كانت عبر آلاف السنين بوابة الشرق إلى العالم، إلى مختبر المستقبل التكنولوجي في المنطقة.

هذا الأسبوع لم يكن لقاء الرئيس عبد الفتاح السيسي بقيادات ٥٢ شركة عالمية مجرد اجتماع اقتصادي، بل إعلانًا عن ميلاد مرحلة جديدة في التاريخ المصري الحديث، مرحلة الاقتصاد الرقمي الإنتاجي، حيث تتحول المعلومة إلى منتج، والابتكار إلى صناعة، والبرمجية إلى أصل وصناعة وطنية.

 

خلال القمة العالمية لصناعة التعهيد التي استضافتها القاهرة يومي ٩ و١٠ نوفمبر، وُقّعت ٥٥ اتفاقية توفر ٧٥ ألف فرصة عمل تقنية خلال ثلاث سنوات.

خطوة ليست فقط على طريق النمو، بل على طريق التحول النوعي في فلسفة الاقتصاد المصري: من الاستهلاك الرقمي إلى التصدير الرقمي والمعرفي.

المعرفة كقوة ناعمة

يقول اقتصاديون، إن من يملك البيانات يملك العالم. ومصر تمتلك الآن ميزة بشرية وجغرافية غير قابلة للاستنساخ:

موقع يربط ثلاث قارات، وعقدة مرور لكابلات الإنترنت التي تربط الغرب بالشرق، وشباب تجاوزوا فكرة الوظيفة والمؤهل الجامعي – هندسة وحقوق وآداب وغيرها – إلى فكرة اكتساب المهارة المتطورة كأيدٍ عاملة في المجال الرقمي.

 

من ٤ آلاف متدرب عام ٢٠١٧ إلى أكثر من ٨٠٠ ألف متدرب رقمي في ٢٠٢٥، رقم يوازي تحولًا اجتماعيًا في وعي الأجيال الجديدة.

 

هذه ليست فقط سياسة تدريب، بل هندسة جديدة للعقل المصري، تتجاوز شهادات الجامعة والمؤهل إلى تنمية ونشر مهارات الاقتصاد المعرفي، مما يفتح الباب للأجيال الجديدة لفرص عمل في السوق الرقمي دون الوقوف على المؤهل.

اقتصاد يعيد تعريف الإنتاج

 

قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات أصبح القاطرة الرابعة للاقتصاد الوطني بعد الصناعة والزراعة والسياحة، بمعدل نمو يتراوح بين ١٤ و١٦٪.

بحلول ٢٠٢٥ ارتفعت مساهمته في الناتج المحلي إلى ٦٪، مع خطة حكومية طموحة لمضاعفة الصادرات الرقمية أربع مرات بحلول ٢٠٣٠.

ليست الأرقام هنا هي ما يثير الإعجاب فحسب، بل المنهج:

أن تتحول الدولة من مستهلك خدمة رقمية إلى مُصنِّع ومصدر معرفة تُوطِّن هذه التكنولوجيا.

 

الملكية الفكرية.. من حماية الفكرة إلى صناعة الأصل

في قلب هذه التحولات تقف الهيئة المصرية العامة للملكية الفكرية، التي لم تعد مجرد جهاز لحماية الحقوق، بل أصبحت ذراعًا اقتصادية للسيادة الرقمية.

 

فهي تربط منظومات البراءات والعلامات التجارية وحقوق المؤلف بقاعدة بيانات المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO)، لتصبح البرمجيات والتطبيقات المصرية أصولًا قابلة للتداول والاستثمار.

هذا يعني أن الفكرة المصرية لم تعد “مِلكًا أدبيًا” فقط، بل أصلًا قانونيًا واقتصاديًا يُمكّن المستثمر والمبتكر على حدٍّ سواء.

البيئة التشريعية هنا لعبت دور الدرع والرافعة في جذب الاستثمار الرقمي الأجنبي وتوطينه:

قانون حماية البيانات الشخصية (١٥١/٢٠٢٠)،

قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية (١٧٥/٢٠١٨)،

ومسودة قانون التجارة الإلكترونية المرتقب.

 

لكنّ التحدي القادم ليس في الحماية فقط، بل في تحفيز الإبداع وتشجيع الاستثمار في الأصول الفكرية مثل البرمجيات والذكاء الاصطناعي والبيانات المجمعة، ونشر ثقافة الملكية الفكرية واحترامها بتوسع.

تشريعات المستقبل.. من النص إلى المنظومة

 

القوانين الحالية، رغم قوتها، ما زالت تتعامل مع الاقتصاد الرقمي كقطاع، بينما العالم يتجه نحو التعامل معه كمنظومة حياة متكاملة.

لذلك تحتاج مصر إلى جيل جديد وحزمة من التشريعات الذكية التي تواكب الذكاء الصناعي وحوكمة البيانات.

تشريعات متطورة تتسق مع التطور التقني السريع، وتنظمه وتحمي الحقوق فيه.

تشريعات تتفاعل آليًا، تُحدَّث نفسها دوريًا، وتبني الثقة الرقمية بين المواطن والدولة والمستثمر.

 

فالقانون لم يعد مجرد نص يُنشر في الجريدة الرسمية، بل نظام ديناميكي يدير علاقة الإنسان بالآلة، والبيانات بالسيادة، والابتكار بالاقتصاد.

 

من هنا يصبح التفكير في “العدالة الرقمية الكاملة” ضرورة وليست رفاهية

من دوائر قضائية متخصصة، وآليات فصل إلكتروني في النزاعات التقنية، وتعاون بين وزارتي العدل والاتصالات لتطبيق التحكيم الإلكتروني وفق المعايير الدولية، وتدريب محكّمين وقضاة تدريبًا مستمرًا وتطوير قدراتهم القانونية والتقنية بالتوازي للفصل السريع في النزاعات.

 

هذه الخطوات بدأت بالفعل، لكنها تحتاج إلى مظلة تشريعية موحدة تُدعى مثلًا:

“القانون المصري للاقتصاد الرقمي والسيادة المعرفية”، كحزمة قانونية موحدة ومسار متسق مع الغاية القومية، يخدمها ويجذب المستثمر، وتتناسق بنوده مع بعضها البعض وتتسق مع قواعد الاتفاقات الدولية ذات الشأن.

 

 

رؤية إنسانية للاقتصاد الرقمي

 

ليست الثورة الرقمية مجرد كابلات وأرقام، بل تحول في فلسفة الإنتاج والعقل الإنساني من “وظيفي” إلى “مبدع ومبتكر”.

 

العمل لم يعد في المصانع فقط، بل في الفكرة، في الكود، في الخوارزمية، في الرقائق الصناعية وأشباه الموصلات.

والمجتمع الذي يحمي عقول مبدعيه ويحمي إنتاجهم الفكري ويحترمه قبل استثماراته، هو المجتمع الذي يملك مستقبله.

ومع القيادة السياسية التي وضعت التحول الرقمي في قلب خطط التنمية، ومؤسسات تشريعية بدأت تدرك أن حماية المعلومة لا تقل أهمية عن حماية الحدود، تبدو القاهرة مستعدة لتكون عاصمة الإبداع التقني في العالم العربي خلال هذا العقد.

 

 

ومستقبل التشريع الرقمي المصري يحتاج إلى تعزيزات مثل:

١. إصدار قانون موحد للاقتصاد الرقمي يدمج حماية البيانات، الملكية الفكرية، التجارة الإلكترونية، حوكمة الذكاء الاصطناعي، وحوافز الاستثمار التقني وتوطينه في مسار واحد متناغم، يخدم بعضه بعضًا، ويجذب الاستثمار التقني، ويُطمئن المستثمر الأجنبي أنه محمي تمامًا، وهو الهدف الأول له بجانب البنية التحتية الرقمية، فالبنية التحتية التشريعية لا تقل أهمية في مسيرة قطار تنمية القطاع الرقمي في مصر وتحويل القاهرة إلى العاصمة التكنولوجية الأولى في الشرق الأوسط.

٢. تأسيس مجلس وطني للسيادة الرقمية يضم ممثلين من القضاء والاتصالات والبحث العلمي والأمن السيبراني، لتنسيق السياسات واقتراح التشريعات وتقديم الدراسات الشاملة وتذليل العقبات للمستثمر الأجنبي في هذا المجال بما يساعد على تنمية توطين الصناعة التقنية وغيرها.

٣. تفعيل نظام “العقود الذكية الحكومية الموحدة” (Smart Contracts) لضمان الشفافية وسرعة تنفيذ الخدمات الرقمية.

٤. إدراج مادة “الملكية الفكرية الرقمية” في التعليم الجامعي لتخريج جيل قانوني يفهم حقوق الملكية الفكرية واحترامها، ويفهم السوق التقني الجديد.

ونختتم بأن القاهرة اليوم لا تبني أبراجًا من الزجاج، بل كما بنت الحضارة المصرية القديمة التي أنارت الطريق للبشرية ووقف التاريخ أمامها احترامًا، تبني اليوم وتضع أسس بنية تحتية من الفكر وتطوير العقل المصري، ليضع قدمًا في سوق المستقبل الرقمي ويكون جزءًا لا يتجزأ منه.

والتحول الرقمي الذي تقوده ليس مجرد تحديث تقني، بل هو تحول حضاري يعيد تعريف علاقة الإنسان بالاقتصاد والعلم والعدالة.

إنها ليست ثورة آلات، بل ثورة عقول وغاية قومية يجب أن يصطف الجميع خلفها من أجل مستقبل أفضل لأبنائنا ووطننا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى